دراسات إسلامية

 

مشكلة ابتليت بها الأمة

بقلم:  أبو عايض القاسمي المباركفوري (*)

 

 

تعاني الأمة الإسلامية ويلاتٍ ومشكلاتٍ. لاتنقطع في هذه الأيام، فلاتخرج من مشكلةٍ إلا إلى مشكلةٍ مثلها أوفوقها. ومن أفظع ما تعانيه الأمة في العصرالحاضر إعجاب المرء برأيه، وعدم الاستماع للمتخصصين فيما يخص الدين وأحكامه وشؤونه. فتجد المرءَ لايقرأ إلا كتيبات في علمٍ من علوم الشرع، أولا يمرعلى كِتابٍ مرَّ الكرام، إلا يرى نفسه أعلم مَن في الأرض جميعاً، وأنه قد حاز علم الدين بحذافيره. وتجد أقزاماً لاعلم لهم بكتابٍ ولا سنةٍ يذهبون ليشككوا في آراء عظماء الدين وأئمته ويتجرأوا عليهم، ويمدوا إليهم ألسنتهم بالسوء. وكم فرَّقت هذه الداهيةُ من شمل المسلمين، وكم أساءت إلى الإسلام، وكم شوَّهت من سمعته. ونالت من الإسلام ما لم ينله ألد أعدائه، فأصبح أمثال هؤلاء لايسعهم ما وسِع سلفَ الأمة وخيارها وأوساطَها.

     لقد أصبح كثير من متعالمي زماننا يطلقون كلمة: «هم رجال ونحن رجال». وهذه الكلمة مأثورةٌ عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت - رحمه الله (80-150هـ) قال ابنُ حزم: «هذا أبو حنيفة يقول:ما جاءَ عن اللهِ تعالى فعلى الرأسِ والعينين، وما جاءَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فسمعاً وطاعةً، وما جاءَ عن الصحابةِ - رضي الله عنهم - تخيرنا من أقوالهم، ولم نخرجْ عنهم، وما جاءَ عن التابعين فهُمْ رجالٌ ونحنُ رجالٌ»(1).

     أرأيت من قائل هذه الكلمة؟ قائلُ هذه الكلمة السائرة الإمام المشهورٌ فقيهُ العِراق، رأى أنس بنَ مَالك، وسمع عطاء بن أبي رباح، ونافعاً - مولى ابن عمر- وعكرمة - مولى ابن عباس - وغيرهم، ولايخفى أن المقصود بقوله: «هم رجال» أقرانُه ونظراؤه من التابعين. وقالها الإمام أبو حنيفة - رحمه الله- ذلك التابعي الجليل - عن التابعين أمثاله، فكان من حقه أن يقولها. وكان بلغ من الورع في الدين وعبادة الله تعالى  مابلغ؛ فروى أبو جعفر الشيرماذي عن شقيق البلخي قال: كان الإمام أبوحنيفة من أورع الناس وأعبدهم وأكرم الناس وأكثرهم احتياطاً في الدين، وأبعدهم عن القول بالرأي في دين الله عزوجل»(2).

     يطلق هذه الكلمة بعض متعالمي زماننا ظناً منهم بأنهم على نفس الدرجة من الفهم والعلم التي نالها السابقون من أهل العلم وأئمته رحمهم الله تعالى، وهم في غفلةٍ عن أن المسلم - كما أنه مأمور بأن يقدر الله تعالى حق قدره، ويُوَفِّي الرسول حقه من الاحترام، ويعظم الصحابة - كذلك  مأمور بأن يعظم من جاء بعد ذلك من أجيال العلماء والفقهاء والمحدثين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الجاهلين وانتحال المبطلين وتأويل الغالين»(3). وكم من أمثال هؤلاء مَن لم يفتح الكتاب إلا لمامًا، ولم يَثنِ رُكبتَه في مجلس علمٍ مطلقاً. فلو قال: «هم رجال ونحن رجال» من كان في منزلة الإمام أبي حنيفة في نظرائه من أهل العلم لحُقَّ له ذلك، وكان في الأمر متسعٌ ومتنفسٌ.

     ولكن الأسف أصبحت هذه الكلمة مرذولةً عندَ كثيرٍ مِنْ الناس في هذا الزمان، خاصةً عند من يُسمون أنفسهم علماء ومفكرين، وكذلك عند الناشئين في طلب العلم. يُطلق هذه الكلمةَ من لم يطلع على موارد اجتهاد أهل العلم ومصادرهم، ولم يُبلَ في العلم وتحصيلَه بلاءهم، ولاذاقَ ما ذاقوا من المشقات والمصائب، فهل يبلغ هؤلاء ما بلغ أولئك علمًا وعملاً وإيماناً وتقوى وغيرةً على الدين ونصحاً لله ولرسوله وللمؤمنين؟ يقول شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: «ومَنْ آتاه اللهُ علماً وإيماناً عَلِمَ أنّه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هُو دونَ تحقيقِ السلفِ لا في العلم ولا في العمل»(4).

     وإن كثيراً من هؤلاء المتعالمين لم يأخذوا العلم إلا عن الجامعات العصرية، ولم يبادروا إلى نهل العلم من مناهله الأصيلة، يشحنون أذهانهم بالسطحية، دون الخوض في دقائق العلم وتفاصيله وأغواره التي تشحذ العقل وتنمي الملكة العلمية. وتجد اليوم حملة الشهادات الأكاديمية (من الدكتوراه فما دونها) بكثرة كثيرةٍ لم يشهدها العهود السابقة. وكان من النتائج الحتمية لهذه السطحية أن الطالب يتعامل مع كل المسائل العلمية صغيرها وكبيرها بسطحيةٍ فاضحةٍ تُبكي وتُضحك كثيراً من الأحيان. ولن ترسخ قدم الطالب في العلم إلا بمطالعة كتب المصنفين المتقدمين. يقول الشاطبيُّ- لمّا ذَكَر طريقينِ لأخذِ العلم عن أهلهِ الأوَّل: المشافهة، والثاني: مطالعة كتب المصنفين قال: وهو نافع في بابه بشرطين ثم ذكر الشرط الأوَّل ثم قال- : «الشرطُ الثاني: أنْ يتحرى كتبَ المتقدّمين مِنْ أهلِ العلم المراد؛ فإنهم أقعدُ بهِ منْ غيرهِم من المتأخرين، وأصلُ ذلكَ التجربةُ والخَبَرُ: أمَّا التجربةُ فهو أمرٌ مشاهدٌ في أيّ علمٍ كان فالمتأخرُ لا يبلغُ مِنْ الرسوخِ في علمٍ مابلغه المتقدمُ، وحسبكَ منْ ذلكَ أهلُ كلّ علمٍ عمليّ أو نظريّ، فأعمالُ المتقدمين، في إصلاحِ دنياهم ودينهم، على خلافِ أعمالِ المتأخرين؛ وعلومُهم في التحقيقِ أقعدُ، فتحققُ الصحابةِ بعلوم الشريعة ليسَ كتحققِ التابعين؛ والتابعونَ ليسوا كتابعيهم؛ وهكذا إلى الآن، ومَنْ طالعَ سيرهَم وأقوالَهم وحكاياتِهم أبصرَ العَجبَ في هذا المعنى، وأما الخَبَرُ ففي الحديث: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم...»(5) والأخبارُ هنا كثيرةٌ، وهى تدلُ على نقصِ الدينِ والدنيا، وأعظمُ ذلكَ العلم، فهو إذًا في نقصٍ بلا شك، فلذلك صارتْ كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم على أيّ نوعٍ كان، وخصوصاً علم الشريعة، الذي هو العروةُ الوثقى، والوزَر الأحمى وبالله تعالى التوفيق»(6).

     ولقد عادت هذه الكلمة مطيةً ذلولاً يركبها كل من أراد أن يردَّ أقوالَ الأئمة المتقدمين، والسلفِ الصالح دون دليلٍ أو برهانٍ، وكلُّ من أراد أن يبرِّر آراءه الشاذة وأقوالَه التافهة واختياراتِه المنكرة، وكلُّ من أراد أن يتطاول على علماء الدين وأئمته.

     قال الخطيبُ البغداديُّلمّا ذَكَرَ الأئمةَ المتقدمين وما وَقَعَ مِنْ بعضهم من وَهم في الجمعِ والتفريق بين الرواة-: «ولعل بعض مَنْ ينظرُ فيما سطرناه، ويقفُ على ما لكتابنا هذا ضمّناه، يلحقُ سيء الظن بنا، ويرى أنّا عَمْدنا للطعنِ على من تقدّمنا، وإظهار العيب لكبراءِ شيوخنا وعلماءِ سلفنا، وأنّى يكونُ ذلكَ! وبهم ذكرنا، وبشعاعِ ضيائهم تبصرنَا، وباقتفائنا واضحَ رسومِهم تميزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهَمَجِ تحيزنا، وما مثلُهم ومثلُنا إلا ما ذكر أبو عَمْرو بنُ العلاء فيما أخبرنا أبوالحسن علي بن أحمد بن عمر المقرئ قال: أخبرنا أبو طاهر عبد الواحد بن عُمر بن محمد بن أبي هاشم قال: حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال:حدثنا الرّياشي عن الأصمعي قال: قالَ أبو عَمرو(7): مَا نَحْنُ فيمن مَضَى إلاّ كبَقْلٍ في أُصولِ نَخْلٍ طُوالٍ»(8).

     فإذا كان أبو عمرو يقول هذا، وهو من أعلام القرن الثاني الهجري، فما ظنك بأمثالنا الذين يعيشون في القرن الخامس عشر من الهجرة، وما يسوده من الشبهات والشهوات والحرص على الجاه، والتهافت على المنصب والمال، واتَّسع الخرقُ على الراقع!!

     وإذا كان هؤلاء المتعالمين يقصدون بقولهم: «هم رجال ونحن رجال» أنهم يساوونهم في أصل الخلقة من سمعٍ وبصرٍ وجوارح، فذاك. وأما فيما حباهم أي السلفَ الصالح اللهُ تعالى بفضله وكرمه من الغزارة في العلم، والإخلاص في العمل، والصدق في الدعوة، والصبر عند البلاء واللأواء، فشتان بين هؤلاء وأولئك. فقد قال العرب: رجل يساوي ألف رجلٍ، ورجلٌ لا يساوي رجلاً. وقد نجد الرجل يوزن بالأمة، ونجد الأمة لا تساوي قلامة ظفر الرجل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الناس كالإبل المئة، لا تكاد تجد فيها راحلة»(9).

*  *  *

الهوامش:

(1)        الإحكام لابن حزم: 4/188، ت: الشيخ أحمد محمد شاكر، الناشر: دار الآفاق الجديدة، بيروت؛ والانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر1/144، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت.

(2)        رد المحتار 1/62.

(3)        رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار برقم [3884].

(4)        مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/436).

(5)        رواه البخاري في الشهادات برقم[2651]، ومسلم في فضائل الصحابة برقم [2533].

(6)        الموافقات للشاطبي 1/148- 154 ط: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، الطبعة: الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.

(7)        وأبو عَمْرو بنُ العلاء هو: المازني البصريّ شيخ القرّاء والعربية، وأحدُ القرّاء السّبعة، مات سنة أربع وخمسين ومئة.

(8)        راجع: موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي (1/12-13)ط: الناشر: دار المعرفة – بيروت.

(9)        رواه البخاري في الرقاق[6498].



(*)   Email: maazmi71@yahoo.co.in

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالقعدة 1435 هـ = سبتمبر 2014م ، العدد : 11 ، السنة : 38